نهر النيل ليس أزمة مياه آنية لدي المصريين! بل تاريخ ممتد من فجر التاريخ إلي وقتنا هذا. وسر حياتهم، إذا فاض جاء الخير، وإذا غاض جف الزرع والضرع، هو القصص والمواويل والخيال الشعبى.
تروى كتب السيرة عن جزيرة في النيل مشى عليها سيدنا يوسف عليه السلام، فقابل زليخة بعد أن كبرت فى السن وذهب جمالها، فقالت له: ألا تعرفنى؟ فقال: لا، قالت: أنا زليخة، فقال: البدر أصبح شِيِنَاً.
والرواية الشعبية الشفاهية تقول ان الجزيرة تابعة «البدرشين» جنوب الجيزة فقد قال سيدنا يوسف: «البدر.. شين»!.
ـ وذكر صاحب النجوم الزاهرة أن أول من قاس النيل هو يوسف الصديق بن يعقوب نبى الله عليه السلام، وخصص السلاطين عبر العصور موظفاً بمقام وزير لمتابعة مقياس النيل، فحين يبلغ 24 قيراطاً يذهب إلى السلطان بالبشارة، لذلك فالـ 24 قيراطاً تعنى لدينا رغد العيش وإمتلاء خزانة السلطان بالمال والحبوب، والطاعة أيضاً، وعلى الفور ينادى المنادى فى المدينة بالإستعداد للمهرجان الكبير، فيذهب الناس إلى الروضة ويقضون الليل فى تلاوة القرآن فى الخيام مع العُمد والمشايخ وكانت الحكومة تذبح الخرفان وتوزعها، وفى اليوم التالى يركب السلطان ويذهب إلى الروضة وحوله أركان الدولة حاملين أطباقا من ذهب وفضة ويجلس السلطان على عرش فيه كل أنواع الزينة، وحوله خيام لباقى الشعب الذي يتدافع لتهنئته بعيد النيل، ويقضى الناس ليلتهم إلى الصباح فى سرور، ويدور المنادى وحوله الأطفال والكبار بالبيارق معلنا نهاية الإحتفال بالدعاء والغناء:
وحل جبر الخاطر...عوف الله
وجبر الخواطر على الله...عوف الله
ده شىء من السنة للسنة
وتعيشوا لكل عام
وتعيشوا إلى كل نيل
والنيل السعيد له فرحة
وكل عام يجينا خاطر
وجبر الخواطر على الله
ـ وكثيراً ما تعرضتْ الإحتفالات للمنع لأسباب دينية أو أمنية، وتحايل المصريون بخيالهم الواسع على المنع بتغيير الاسم، وفشلتْ الأنظمة المتغيرة فى حرمان المصريين من الإحتفال بنهرهم العظيم، فمرة يحتفلون بعيد الشهيد وعيد الملاك ميخائيل أو الفيضان أو النيروز، أو رأس السنة القبطية، ومرة بعروس النيل وشم النسيم.
ـ وكان المعز لدين الله الفاطمى يخشى الجن المسحور الساكن فى نهر النيل، وأمر جنده حين أرسلهم إلي النيل أن يصطحبوا معهم كلباً أسود، ويسبقهم الكلب فى نزول النهر، وفعلوا!.
ـ والنيل ينام، ليس مثل الإنسان، فهو يغفو لحظة قد تصل إلى ثانية أو نصف دقيقة، ويا لسعده من يشرب منه فى تلك اللحظات!.يمتلك قوة تفوق خيال البشر، ويصبح بإمكانه أكل الزجاج وكسر الحديد، وصفعة واحدة من كفِّه تُسقط أشد الرجال.
ـ وفى جوف النيل تسكن الجِنيِّه مع الرجل المسحور، وتنس المخيلة الشعبية فى القرى التى يتفرع إليها النيل تحديد شكل الكائنات المخيفة التى تعيش تحت الماء، فالجِنِيَّه لها شعر طويل جداً، وأظفارها كذلك، وعينها واسعة ومشروطة بالطول على إحداهما!.
ـ وذهب الخيال الشعبى إلى أن سيف بن ذى يزن كانت مهمته الأولى إحضار كتاب النيل من بلاد الأحباش، ونجح البطل فى الحصول على الكتاب وأجرى ماء النيل وأنشأ مصر.
ـ والمرأة المصرية كانت تذهب إلى النيل أثناء حملها لتمضغ قبضة من الطمى لتساعدها على الولادة، والمصريات يذهبن بأطفالهن إلى مجرى النهر إذا أصابهم حمو النيل ليعالجونها بغسل أجسادهم بماء النيل الطاهر.
ـ والنيل شريك فى قصص تعرف بقصص العشق والأساطير التى بدأت من إيزيس وأوزوريس إلى حسن ونعيمة، وقيل أن حسن ألقي نفسه فى النيل لأنه أرحم من البشر وقلوبهم القاسية، وتخيل الراوى أن أهل نعيمة قطعوا رأس حسن وتحرك جسده نحو النهر وظلت الجثة ثلاثة أيام طافية:
مشيت تلات أيام *** واهى للدفن حنت
جت بنت عمه اللى *** من دمه عليه حنت
وشالت الطين ورجعت *** ع البلد حنِّت
وحنِّت بمعنى تشوّقت فى الأولى، وعطفتْ فى الثانية، وفى الثالثة لوّنَت يدها بالحِنَّة.
ـ وفي كتابه فولكلور النيل قدم هشام عبد العزيز دراسة مهمة إستعان فيها بمئات المراجع والكتب التراثية منها ألف ليلة وليلة، والبداية والنهاية لابن كثير، وفتوح الشام للواقدى، وجمال الدين أبو المحاسن بن تغرى بردى صاحب الكتاب الأشهر النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة.
الكاتب: أشرف عبد الشافى.
المصدر: جريدة الأهرام اليومي.